ما هو الملجأ الدافئ؟

ما هو الملجأ الدافئ؟

0 reviews

لعل الأسباب التي تجعل الإنسان متعلقا و مرتبطا بإنسان آخر كثيرة و مختلفة. فمن منا لم يتعلق بأمه و أبيه اللذين يعطونه حبا و حنانا دون مقابل؟! من منا لم يرتبط بأصدقائه الذين يشاركونه مراحل حياته المختلفة بحلوها و مرها، و في الحزن قبل الفرح دون انتظار جزاء إحسانهم إليه؟! و من منا لم يحب شخصا وقف بجواره و كان سندا له في يوم من الأيام؟! تعددت الأسباب، ويبقى الحب هو الشعور المشترك تجاه كل من أحاط بنا يوما ما. في الحقيقة بالنسبة لي إن الحب هو شعور طبيعي من إنسان تجاه إنسان و له أسبابه كما ذكر من قبل، لكن ما الذي يجعل الحب شعورا طبيعيا من إنسان… تجاه مكان؟

لفترة طويلة من العمر لم يكن هذا السؤال حاضرا في ذهني ولا شاغلا لتفكيري، إلى أن جاء الوقت الذي كنت أرحل فيه من المنزل الذي تربيت بين جدرانه إلى منزل آخر. في الواقع وقتها لم أكن أعلم من قبل أن الإنسان منا يمكن أن يحزن لتركه مكانا تعود عليه و مكث فيه طويلا. فكان التعريف الوحيد في ذهني عن المنزل هو أنه مكان محاط بجدران فوقها سقف وتعيش الأسرة فيه. إلا أنه في الحقيقة ليس كذلك. لم يَصدُق من قال لنا أن البيوت مبنية من الحجارة، بل البيوت بنيت من الذكريات التي ولدت داخلها، بنيت حين أحسسنا أننا بحاجة إلى أن نتكئ إلى أحد عواميدها نشاركه خواطرنا، حين نظرنا من شرفها نتأمل النجوم التي في السماء و نأخذ نفسا عميقا بعد يوم شاق، و بنيت أيضا عندما اخترنا رُكنا في أحد زواياها نختبئ عنده حينما كنا صغارا نلعب. كنت طوال الوقت أرى البيت بناء من الحجارة، و لكن وقت الرحيل رأيت البيت بصورته الحقيقية و كيف أنه مبني من الذكريات و الحكايات التي لا يمكن أن نرحل عنها أو ترحل عنا أبدا.

لا ينته التعلق و حب الأماكن عند هذا الحد، و لم تكن تلك المرة الأخيرة التي أشعر فيها بالامتنان لمكان ما. فهذه المرة شاركني هذا الشعور رفقاء العمر. و هم رفقاء المدرسة الذين ظلوا معا طيلة اثنتي عشرة عاما. بالتأكيد لم تكن كل الأيام وردية لا في المدرسة و لا في أي مكان آخر، و بالتأكيد أيضا كان كل شخص ينتظر اليوم الذي يتخرج فيه و ينظر بحسرة لهؤلاء الذين يكبرونه و يتمنى لو ينهي دراسته مثلهم. لكن و بصدق، و حين جاء الوقت الذي تحتم فيه أن يشد الفتى الرحال لرحلة جديدة في حياته، و ينظر في وجوه أقرانه و هو يعلم أن القدر كتب نهاية مسيرتهم معا، و أن المكان الذي كان يجمعهم قد أدى رسالته و أنهى مشواره معهم. تشعر في تلك اللحظة أنك تود أن تحدث هذا المكان و تشكره على الفترة التي احتضنك فيها، أن تشكره على أنه كان سببا في تكوين صحبتك و كان سببا في معرفتك لمعلم رباك قبل أن يعلمك و نصحك قبل أن يوبخك، و أن تشكر ذاك المكان أيضا على الحكايات التي لن تنساها بداخله و على الأيام التي قضيتها بين أسواره.

حينما كنت شاردة الذهن أفكر في هذا الموضوع، تذكرت كيف أن الرسول {صلى الله عليه و سلم} كان فؤاده معلقا بمكة المكرمة و ما كان يريد تركها، فحين كان مهاجرا نظر إليها و قال “و الله إنك لأحب البلاد إلي و لولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت”. لقد كان وداع الرسول لمكة وداعا حارا، فلم يكن من السهل أبدا ترك النبي للمكان الذي ولد و تربى و عاش فيه. و لعله من أكثر القصص تأثيرا حينما نعلم أن النبي فتح مكة قبل وفاته و لم يشأ الله تعالى إلا أن يعود رسوله إلى المكان الذين يحبه فاتحا إياه. حين تذكري لتلك القصة أدركت كم أن حب الأماكن و التعلق بها شيئا ساميا، فإن لم يكن كذلك لما عبر الرسول عنه و لما عرفت الأمم بتلك القصة.

و من هنا أدركت أنه لم يُخلق شعور الحب كي يكون للإنسان فقط، و ليس الحنين مقتصرا أيضا على الإنسان فقط. بل إن لنا قلوبا تحن لبعض الأماكن و تمتن لها. تلك القلوب لا ترى الأماكن مجرد بنايات، بل ترى الأماكن كذكرى عطرة، و حكايا ثمينة. تلك القلوب ترى بعض الأماكن….”الملجأ الدافئ” الذي تهرب إليه كي تستعيد ذكرياتها معه.

comments ( 0 )
please login to be able to comment
article by

articles

1

followers

0

followings

1

similar articles