الكتابة بعيدا عن الوطن.. قريبا أكثر من المنفى

الكتابة بعيدا عن الوطن.. قريبا أكثر من المنفى

0 reviews

يقول الشاعر أحمد الماغوط في قصيدته" ارتحال وطن":

" حلمي القديم:

وطن محتل أحرره

أو ضائع أعثر عليه

حدوده تقصر وتطول حسب مساحته

وعدد سكانه وأنهاره ونشاط عصافيره

والمغتربين من أبنائه

والعابرين في طرقاته"

 

ما من حديث عن الوطن إلا ويتم شحنه بمفاهيم ثقافية عميقة مثقلة بحمولات عاطفية جادة لا حصر لها، فتتعمق أكثر العلاقة بين الفرد ووطنه. هذه العلاقة لا يتم رصدها بيسر وسهولة بعيدا عن الحماس والانفعال. فكلمة الوطن هي وجدانية يبذل في سبيلها الإنسان الغالي والنفيس، كما يضحي بحياته دفاعا عن حرمة وطنه. وكل مارق أو جاحد لهذه العلاقة فهو خائن غير وطني يستحق الموت أو النفي.

فلا هوية لشخص من دون وطن، الوطن هو الهوية والانتماء ولا يمكننا أن نجد إنسانا على وجه الأرض من دون وطن، لذلك تختلف سبل التعبير عن الاعتزاز بهذا الانتماء، وتتعدد أشكال البوح لإبراز هذا التقدير والحب والإخلاص وحسن نية الانتماء. كل هذه المشاعر يعتز بها المرء اتجاه وطنه سواء كان جنديا، أو أديبا، أو فنانا، أو ممثلا... فهي تبرز لديه منذ الطفولة.

والعيش فوق تراب الوطن بين الأهل والأحباب يعني الدفء والحب والأمان. والعيش بعيدا عنه يعني كثيرا من الألم والحنين والغربة.

لذلك فالتعبير عن الانتماء إلى الوطن قد يأتي على شكل عبارة أو قصيدة أو قصة قصيرة أو لوحة فنية أو ملحمة أو أغنية جميلة، وأحيانا على شكل تعاطف مع ابن البلد أو مناصرته والوقوف إلى جانبه في محنته. وكما يقول المثل الصيني:" سواء كانت جميلة أو قبيحة فهي بلدي، وسواء كان شريرا أو خيرا فهو ابن بلدي".

تختمر في متون الوطن عدة عوامل فكرية، وبيولوجية وإثنية وعرقية... لتفرز في النهاية فردا تتحدد شخصيته انطلاقا من طبيعة هذه العوامل. يبدأ الأمر أولا بمسقط الرأس، حيث ينشأ الطفل معتزا بالمكان الصغير الذي يترعرع فيه كالأزقة والحارات المجاورة لبيته، والزوايا المختلفة... ثم يتوسع هذا الوطن الصغير ويكبر معه وعي الانتماء إلى فضاء أوسع من الحارة إلى المدينة ثم البلد بأكمله، ويبرز إلى جانب هذا الانتماء انتماء آخر إلى القارة، أو البلد العربي، أو العالم الإسلامي بالنسبة للمسلمين. ورغم تنقل المرء من مكان إلى آخر عبر العالم يظل البلد الأول هو الرحم الأكبر الذي لا تنضب مشيمته أو تجف.

وحينما يتم إبعاد المرء عن وطنه ويُنْفى، أو يختار العيش هناك بمحض إرادته لدوافع شخصية، فهذا لا يعني أنه تجرد من انتمائه إلى وطنه كليا، بل تضاف إلى عاتقه أعباء أخرى تتلخص بالأساس في الحلم المستمر بالعودة. فيقاسي عذاب الشوق والحنين، ناهيك عن اصطدامه بواقع ذي ثقافة وعادات ونمط عيش مختلف، وقد يكون مرفوضا كالشرب والمأكل وبعض الأخلاق والسلوكيات.

والإبداع هو الآخر يتأثر بحركية الانتقال هذه، ويخضع لضوابط ومعايير وأساليب تعبير أخرى. لكن إذا ربطنا الوطن بمفهومه الشمولي بالكتابة، فهل يمكن اعتبار الكتابة في حد ذاتها وطنا يغني عن الوطن الأم؟ وماهي حدود هذا الوطن؟ هل تعتبر اللغة الأجنبية حدودا وهمية لهذا الوطن؟ هل وطن الكاتب هو نفسه وطن الإلهام ومصادر التخييل؟ أيمكن اعتبار الوطن الآخر أو بلد الغربة منبعا أكثر خصبا من الوطن الأصلي؟ كيف يمكن الانتماء إلى عالمين متناقضين؟ وماذا عن الأدباء الذين يكتبون بلغة غير لغتهم؟ هل اللغة شرط أساسي للانتماء والهوية؟

كل هذه الأسئلة المقلقة اتجاه اللغة والذات، والوطن تظل حاضرة بقوة عند الأدباء الذين يعيشون بعيدا عن بلدانهم. فالبعد عن المكان يدفعهم لاعتماد الكتابة كوطن لا حدود له، سواء بلغتهم أو لغة البلد يعيشون فيه. لكن يظل الخلاف قائما بين الأدباء أنفسهم من المنبع الأكثر خصبا للتخيل والإلهام. يذهب البعض منهم إلى اعتبار الوطن الأصلي التربة الخصبة التي تلهم الأديب، وتروي فكره لأنه يظل قريبا من المنبع الذي نشأ وترعرع فيه، أي أن الجذور لا تزال في تربتها الأصلية، وهو بذلك يظل قريبا من أبناء بلده، ويعايشهم بشكل يومي مما يسهل عليه فهم واستيعاب تجارب الآخرين وتوظيفها في تجاربه الإبداعية. في حين أن الأدباء المغتربين يتكئون في كتاباتهم فقط على ذاكرتهم، واسترجاع حياتهم الماضية التي عاشوها قبل اغترابهم. فتظل الذاكرة المنبع الأساسي لإنعاش إبداعاتهم مغلفة بالشوق والغربة، أو التطرق إلى اندماج الحياة في الغربة والمشاكل التي يعانون منها كالعنصرية وصعوبة مواكبة الفكر العربي مثلا للفكر الغربي، في محاولة للجمع بين عالمين متناقضين دينيا واجتماعيا وثقافيا..

ويشير البعض إلى عدد من الأدباء يعيشون غربة في بلدهم أكثر قسوة مما يعيشها إخوانهم في بلد الغربة، خصوصا عندما تتجاهله المؤسسات الثقافية ويصعب عليه أن يتخندق في موقع معين. في المقابل يوجد مبدعون جعلوا من غربتهم مادة أولية ليخلقوا تحفة بديعة مثل رواية" مائة عام من العزلة" لغارسيا ماركيز التي كتبها في باريس في ظروف عيش صعبة. وبعض آخر فشل في توظيف هذه المادة الأولية فنضبت مع مرور الزمن منابع التخيل لديهم، وانساقوا فكريا وثقافيا مع نمط عيش البلد الذي يقيمون فيه.

يصعب تحديد مفهوم شامل للوطن خصوصا إذا تم ربطه بالكتابة، إذ تحضر اللغة وتختلف زوايا الرؤية في كل بلد. وبذلك محنة الوطن، ارتباطا بالكتابة، تتحول إلى مسألة ذاتية تختلف طرق توظيفها والتعبير عنها من مبدع إلى آخر.

 

comments ( 0 )
please login to be able to comment
article by

articles

9

followers

6

followings

9

similar articles